الثورة السورية تنتظر تجلياتها الإبداعية
ما يسم الثورة السورية عما سواها من ثورات الربيع العربي، هو مواجهتها لإشكال مركَّب يتجّسد بـ (الاستبداد – الطائفية)، ولعل هذا من أهم الأسباب التي جعلت منها فضاءً مفتوحًا لكل أشكال الاحتراب الدولي والإقليمي والقومي والمذهبي. فضلًا عن أن انطلاقتها السلمية، لم تتوافر لها أسباب الحصانة وعوامل النمو الضرورية لاستمراريتها الطبيعية؛ وذلك بفعل النهج الدموي لنظام الحكم الذي استطاع تحويل شكل الصراع في سورية من مواجهة بين نظام مستبد غاشم، وشعب يدفع عن نفسه الظلم ويطالب بحقوقه، إلى مواجهة بين مصالح إقليمية ودولية عملت –بفعل تفاقمها وتناقضاتها– على تغييب القضية الجوهرية في الصراع وتتمثل بمطالب السوريين في التحرر من الاستبداد واسترجاع الحقوق المسلوبة.
ربما لا نجد أي جدوى من تكرار الوقوف أمام المشهد المتشعب لمسار الثورة، ولكن لا مناص -قط- من الوقوف عند أهم العوامل التي أسهمت في انزياح الوجه الحقيقي للثورة.
كان لانحسار الطور السلمي للثورة، ودخولها مرحلة العنف المسلّح، آثار وتداعيات كبيرة، لعبت دورًا مهمًا في ما آلت إليه الأمور، ولعل في طليعة تلك التداعيات:
1 – إعطاء الفرصة لنظام الأسد باستخدام آلة القتل التي يمتلكها دون أي رادع، والتنكيل بقوى الثورة بغية استئصالها والقضاء عليها.
2 – التدخل الإقليمي مصحوبًا بالأجندات التي يحملها المال السياسي.
3 – اختراق الجماعات المتطرفة بشتى أشكالها للأرض السورية، علمًا أن نظام دمشق عمل جاهدًا في تسهيل دخولها وتغلغلها في الأرض السورية، واستطاع استثمارها خير استثمار.
4 – امتثال الكيانات الرسمية للثورة (المجلس الوطني – الائتلاف) لإرادات الجهات الإقليمية والدولية، وعدم العمل بمبدأ (المصالح المتبادلة)؛ ما أسهم في ضياع القرار الوطني وعجزه عن الإمساك بزمام المبادرة الوطنية.
5 – انحسار شبه كامل للحراك الثوري السلمي وتفرد السلاح في إدارة الصراع والتحكم بمسار الثورة، الأمر الذي ساهم في تحييد أي فاعلية سياسية سورية.
أدت هذه العوامل مجتمعةً إلى انزياح شبه كامل لمشروع الثورة وبات مصطلح (الحرب الأهلية) هو الأكثر رواجًا في وسائل الإعلام العالمية، حين تتحدث عما يجري في سورية، وبات أكثر الأسئلة تردّدًا في النفوس هو: الثورة السورية إلى أين؟ ما العمل؟
الإجابة عن هذا التساؤل تستدعي مزيدًا من التأمل والتفكير، فضلًا عن أن المبادرة العملية لمواجهة المشهد الراهن تبدو بحاجة إلى جهد جبار، وذلك؛ بسبب التحديات الهائلة والإرث الثقيل الذي خلّفته ست سنوات عاصفة في سورية.
تغيب عن الثورة السورية الهوية الناصعة الوضوح ، نتيجة لانعدام الحوامل الحقيقية لتلك الهوية، ولئن كان من البداهة القول: إن ثورة السوريين حملت مطالب التغيير الديمقراطي والخلاص من الاستبداد وسيادة العدل والقانون واسترجاع الحقوق المسلوبة، إلا أن هذه المضامين الجوهرية للثورة، لم تكن مُنتظمة أو مؤطرة في مشروع وطني شامل، تجسّده قوى أو كيانات سياسية وطنية، لها جذورها الممتدة في العمق الاجتماعي، وتحظى بتأييد شعبي واسع، ولها دور مؤثر في الواقع الميداني للصراع، هذا لا يعني – قط – غياب رؤى وتصورات وأفكار ذات قيمة جوهرية؛ تسعى إلى المساهمة في تعزيز ملامح مشروع وطني سوري، ولكن الذي نعنيه، هو أن مجمل مفردات مشروع الثورة السورية، مازالت حبيسة في نشاط المثقفين والتجمعات النخبوية والجهد الفردية، ولم تتحول إلى برامج سياسية تحملها وتسعى إلى تجسيدها كيانات سياسية تحظى بتأييد السوريين، وقادرة – في الوقت ذاته – على تجسيد تطلعاتهم.
لاستعادة هذا الوجه المغيَّب للثورة السورية ينبغي العمل – فيما أرى – على مسارين متزامنين:
الأول: إيجاد خطاب سياسي – إعلامي يتجاوز الفهم المنبثق من جميع الكيانات التي مازال وعيها يرزح فيما دون (الحالة الوطنية)، كالفصائلية والمذهبية والحزبية المتخشّبة والقومية الانتهازية، وكذلك يتجاوز الحالات الفردية الاستعراضية التي تتمثل في تشدّقات بعض الساسة والمثقفين، والتي كانت في معظم الأحيان مفارقةً لسلوك أصحابها. بالطبع، هذا الخطاب المنشود لن يتأتى من مجرد الرغبة في إيجاده، ولا من وصفة جاهزة يتم استيرادها، بل هو مرهون بوجود حوامله الحقيقية التي تتجسد بجميع الفعاليات الاجتماعية التي مازالت تحمل مشروع التغيير الوطني ومقاومة الاستبداد بكل أشكاله (أحزاب – تيارات وتجمعات سياسية – منظمات مجتمع مدني – نقابات مهنية – أفراد…)، ومما لا شك فيه، أن النهوض بهذا الأمر يستوجب من الجميع -بالضرورة- حيازة حسٍّ نقدي عميق وجرأة فكرية صادقة، وقدرة على تجاوز الذات، واختراق جدران الإيديولوجيا، وإذا كنا نفتقر إلى حيازة هذه الملكات الجوهرية-في الغالب-فإن تجاوزها أو الالتفاف عليها لا يعني سوى العجز وغياب القدرة والوعي الجاد إلى تجاوز الحالة الراهنة.
ولئن كان من المؤلم جدًا للسوريين أن يواكب العالم سيرورة ثورتهم من خلال خطاب وصور وفيديوهات ورايات، لم تكن -دائمًا- إلّا سببًا في تجذير مأساتهم، فإن العمل على إزاحة النقاب المشوّه عن وجه الثورة وإظهار وجهها الناصع بات أمرًا لا بدّ منه.
الثاني: المزيد من العمل الجاد في الميدان الإبداعي (الفكري والفني والسياسي)، ولا حاجة للقول: إن الثورة السورية كانت غنية جدًا بكشوفاتها الثقافية أكثر بكثير من إرهاصاتها السياسية، إلّا أن التعاطي الجوهري لهذه الكشوفات مازال دون المستوى المطلوب، لقد حجبت عقود الاستبداد الطويلة المجتمع السوري عن البحث في مشكلاته الاجتماعية والسياسية واختزلت وعيه بما تتيحه السلطة وتراه ضروريًا لإعادة إنتاجها وجعلت من حالة الخوف هاجسًا لا يفارق العقول والقلوب، وحائلًا دون أية مقاربة جادّة لما هو مسكوت عنه أو محظورٌ أمنيًا، الأمر الذي عزّز حالة من الموات الثقافي السوري، باستثناء حالات نادرة تجسدت في قدرة بعض المثقفين السوريين على تجاوز كوابح المحظورات، وغالبًا ما دفعوا ثمن هذا التجاوز بالموت أو السجن أو الغربة القسرية.
لقد أتاحت الثورة للوعي السوري الطامح إلى الحرية أن يقارب بعمق، ويبحث بجدية، ويواجه بجرأة وصدق مجمل مشكلاته التي تُعدُّ شرطًا محايثًا لتطلعه نحو حياة أفضل (مفهوم الوطنية – بناء الدولة – تداول السلطة – قضايا الاستبداد – مفهوم المواطنة – الطائفية ونظام الحكم….).
الثورات لا تفصح عن ذاتها بالبنادق والهتافات والشعارات فقط، بل بتجلياتها الإبداعية فكرًا وأدبًا وفنًا أيضًا، ولهذا أعتقد أن ادوارد سعيد ومحمود درويش وغسان كنفاني وإحسان عباس ويوسف سامي اليوسف وسواهم من المبدعين الفلسطينيين كانوا أبرع وأرقى من بعض الكيانات السياسية والعسكرية بالتعريف بهوية القضية الفلسطينية.
الثورة السورية عظيمة بتضحياتها وقيمها ومقاصدها، وهذا النبل الثوري السوري مازال ينتظر تجلياته الإبداعية التي توازي مكنوناته القيمية.
حسن النيفي - رئيس المكتب السياسي
17 – 03 – 2016