Translate

دراسات

المواطنة ومنظمات المجتمع المدني في الوعي السوري

بقلم: حسن النيفي

تتعدّد دلالات مفهوم المواطنة بتعدّد الحقول المعرفية التي ينشأ فيها، ذلك أنَّ لكلِّ سياق ثقافي خصوصيَّته المعرفية والاجتماعية، وهذا ما يدعونا لاستجلاء دلالات مفهوم المواطنة من منظورات عديدة.
في اللغة العربية: المواطنة مأخوذة من الوطن، وهو المنزل الذي يقيم فيه الإنسان، والوطن جمعه أوطان، والمَواطن: جمع موطن وهو المكان أو المشهد من مشاهد الحرب، قال تعالى:(لقد نصركم الله في مواطن كثيرة). ومواطنة هي المصدر من الفعل: واطن، على وزن: فاعَل ويتضمن معنى المشاركة، والوطنية تعني حبَّ الوطن وما ينشأ عن ذلك من مشاعر عاطفية.
وتعرّف دائرة المعارف البريطانية (المواطنة) بأنها علاقة بين الفرد والدولة كما يحدّدها قانون تلك الدولة، وما يصاحبها من حقوق ومسؤوليات.
وتشير الموسوعة الدولية إلى أن المواطنة هي عضوية كاملة في دولة أو بعض وحدات الحكم وأن المواطنين لديهم حقوق مثل حق التصويت وحق تولي المناصب العامة وعليهم واجبات كدفع الضرائب والدفاع عن بلدهم.
في حين أن نظرية العقد الاجتماعي لـ "جان جاك روسو" تؤكد أن المواطن له حقوق إنسانية يجب أن يحصل عليها وفي الوقت ذاته عليه مسؤوليات يجب تأديتها.
كما ارتبط مفهوم المواطنة لدى بعض الدول بمعنى الجنسية، فالشخص الذي لا يملك جنسية في دولة معينة فلا يُعدّ مواطناً.
إلا أنه في القرن الواحد والعشرين بات مفهوم المواطنة ينحو منحىً عالمياً وأصبح يتحدّد بعدّة صفات أهمها:
1 – الإقرار بتنوع الثقافات – 2 – احترام الآخر وحريته – 3 – الإقرار بوجود ديانات مختلفة
 4-الاعتراف بالتنوع الإيديولوجي والسياسي – 5 – التنوع الاقتصادي – 6 – المساهمة في السلم العالمي ....
يتضح مما سبق أن مفهوم المواطنة هو المجال الأكبر الذي يستوعب مختلف الانتماءات في المجتمع، إذ تنصهر في داخله جميع الانتماءات لصالح الوطن، كما أنه يتضمَّن مجمل المعايير التي تحدّد ما للأفراد وما عليهم من حقوق والتزامات.
ولكن من جهة أخرى ينبغي التأكيد على أن ممارسة المرء لحقوقه وتأديته لواجباته لا بدّ لها من أن تتجسّد بآليات ووسائل وتضبطها معايير، ولا بدّ لهذه المعايير من جهة تشرف عليها وتعمل على ضبطها وقوننتها، وفي هذه النقطة بالذات يكون مفهوم المواطنة قريناً بمفهوم الدولة من جهة، وقريناً بمفهوم المجتمع المدني من جهة أخرى.
فمنذ انطلاق الثورات البرجوازية (الفرنسية والبريطانية وحرب الاستقلال الأمريكية) فقد تقوّضت سلطة الكنيسة وتلاشى مفهوم الحكم المطلق، وبدأت الولاءات العائلية والطائفية تزول شيئا فشيئاً، وفي الوقت ذاته بدأت تترسخ عدّة مفاهيم تتضمن مشاركة شعبية واسعة في صنع القرار، وكذلك مبدأ تداول السلطة سلمياً، وحق الترشح للانتخابات، وحق المساءلة والمحاسبة والاستناد إلى الدستور، ومبدأ الفصل بين السلطات، ومنع احتكار السلطة، والتغوّل في أجهزة الدولة ...
وفي موازاة ذلك بدأت تتشكل مؤسسات مدنية مستقلة ترفد الدولة وتراقب وتصوّب ممارساتها وتشارك في تحقيق الكثير من المهام والوظائف الاجتماعية التي عجزت أو تخلت الدولة عن تحقيقها.
يمكن القول إذاً: إن المجتمع المدني هو مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تهدف إلى تحقيق مصالح الأفراد وتقديم خدمات للمواطنين وممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، وتلتزم هذه المنظَّمات بقيم ومعايير التَّراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السَّلمية للتنوع والاختلاف. ويشير علماء الاجتماع إلى أربعة مقوّمات يتقوّم عليها المجتمع المدني:
1 – الفعل الإرادي الحر والتطوعي.
2 – التواجد في شكل منظمات.
3 – قبول التنوع والاختلاف بين الذات والآخرين.
4 – عدم السعي للوصول إلى السلطة.
وبناء على ذلك، يمكن أن يتضمن المجتمع المدني النقابات المهنية والحركات الاجتماعية والجمعيات التعاونية والأهلية وهيئات التدريس والنوادي الرياضية ومراكز الشباب والاتحادات الطلابية والصحافة الحرة ووسائل الإعلام والنشر ومراكز البحوث والدراسات.



أزمة المواطنة في سوريا
اتسمت مرحلة ما بعد الاستقلال بإعلاء الحس الوطني السوري فوق الروابط ما قبل القومية، إذ رفض السوريون آنذاك أن تكون الهويات والانتماءات المحلية قاعدة للاجتماع السياسي. وبمجيء ثورة الثامن من آذار عام 1963 لم تُتح السلطات المتعاقبة الفرصة للسوريين للحديث عن هويات متعددة بوضوح وشفافية، حيث طغى خطاب قومي متعالٍ حاول ردم الأزمات أو دفْنها بدلاً من البحث في حلول لها. لقد عُرف المجتمع السوري بتنوعه من حيث الأعراق والديانات والمذاهب، ولم يكن هذا التنوع مصدر أزمة تنذر بالانفجار لو أُتيح له المناخ الديمقراطي الملائم لبلورة المفاهيم والقناعات وتحديد الحقوق والواجبات معاً، وكذلك كان من الممكن جداً أن يكون هذا التنوع مصدر قوة وثراء لسوريا والسوريين لو كان منتظماً في عقد اجتماعي يسهم السوريون جميعاً في صياغته وتحديد ملامحه ويحظى بقبول الجميع.
لا تتجسّد أزمة المواطنة في سوريا في غيابها عن وعي السوريين، بل تتجسد في تغييبها، وفي محاولة إيجاد أشكال أخرى من الولاءات تلبي رغبة وحاجة السلطة الحاكمة أكثر مما تعبر عن نزوع وطني حقيقي لدى المواطنين. لقد فرض نظام البعث منذ مجيئه إلى السلطة فهماً قسرياً وفوقياَ لمفهوم المواطنة، ولعل هذا الإجراء القمعي لا تطال تداعياته مكوّناً محدّداً من مكوّنات الشعب السوري بقدر ما تطال المجتمع برمته، وهذا لا ينفي – بالطبع – أن بعض المكوّنات قد طالها الأذى أكثر من سواها – كما حال الإخوة الكرد – بسبب حرمان قسم كبير منهم من حق الجنسية بالإضافة إلى حقوقهم الثقافية والاجتماعية.
تجليات الأزمة
منذ عام 1970 يعتاش نظام الأسد على خطاب قومي تقليدي يخفي تحته كل سوءات الاستبداد والتسلط والفساد وحرمان السوريين من أدنى حقوقهم المشروعة، فتحت شعار (تحرير فلسطين ومقاومة الصهيونية وتحرير الجولان والعمل من أجل الوحدة العربية ) فقد تمّ فرض قانون الطوارئ واستمرار العمل بموجبه طيلة ما يقارب نصف قرن من الزمن، وكذلك تم تعطيل الدستور وتغييب الحريات وعدم السماح بتشكيل الأحزاب السياسية، وفي موازاة ذلك كان هناك تغوّل كبير لأجهزة الأمن وسعيها المستمر لمحاصرة المواطن والتضييق عليه ليس بمصادرة حقوقه السياسية فحسب، بل في أدنى حقوقه المعيشية أيضاً. وبات أي حديث أو تلميح إلى حقوق المواطن في الحرية والعيش الكريم يُعدّ مساساً بأمن الدولة وتهديداً لسلامتها، وكذلك بات أي حديث عن حقوق مكوّنات الشعب السورية الثقافية أو الاجتماعية يُعدّ ضرباً من الخيانة أو محاولة لتفتيت الدولة. كما بات ينظر إلى أي نقد أو ملاحظة يبديها المواطن تجاه رجل السلطة تُعدّ على أنها مساس بهيبة الدولة قد يدفع المواطن حياته ثمناً لها، مما أدّى إلى اختزال القيم الوطنية في شخص الحاكم الذي يتمتع بالمنعة والعصمة من أي نقد أو ملاحظة. وكان من نتيجة ذلك أن قوّة الدولة وهيبتها أصبحت تتجسدّ بقوة رجال الأمن وخفر السلطة، الأمر الذي يؤكد أن شرعية نظام الأسد كانت تُستمدّ من آلة القمع التي يمتلكها وليس من قناعة المواطنين الذين يحكمهم.
ولعلّ المشكلة – فيما أعتقد – لا تكمن في مفردات الخطاب القومي التقليدي الذي كان نظام البعث يعمل على إعادة إنتاجه على الدوام – على الرغم من تحفظاتنا الكثيرة على ذلك الخطاب – بل إن المشكلة الجوهرية إنما تكمن في توظيف هذا النظام لمفردات الخطاب وجعلها ستاراً لممارساته الجسيمة بحق السوريين، وكأن تحرير فلسطين والجولان ومقاومة الصهيونية وإقامة الوحدة وكل شعارات الممانعة التي يدعيها أصبحت مرهونة باغتصاب الحريات ومصادرة الحقوق وإذلال الشعب والإجهاز على المجتمع.
عطالة المجتمع المدني في سوريا
لقد شهد تاريخ سوريا الحديث بذوراً ملموسة لنشاط المجتمع المدني، حيث تشير الدراسات إلى تأسيس أول جمعية خيرية في دمشق عام 1880 وهي (جمعية ميتم قريش الخيرية). وفي عام 1959 صدر قانون التأمينات الاجتماعية، حيث تم تكليف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بمراقبة عمل الجمعيات ونشاط المجتمع المدني. وشهد العام 1974 نقطة تحول حاسمة في عمل منظمات المجتمع المدني، إذ تم إصدار قرار يتم بموجبه تحديد أنظمة الجمعيات ضمن إطار عام يشمل (13) بنداً يضمر معظمها تدخلاً سافراً في شؤون الجمعيات والحدّ من حريتها وحرفيتها، كما يضمر رغبة السلطة بالهيمنة على عمل المنظمات المدنية.
وفي إحصائية لعام 1994 بلغ عدد الجمعيات في سوريا (625) جمعية موزعة على النحو التالي:
1 – 240 جمعية خيرية.
2 – 127 جمعية ثقافية.
3 – 203 اتحادات اجتماعية ونوادٍ.
4 – 26 جمعية صحية.
5 – 29 جمعية تعاونية.
إن المفترض والمأمول أنت تمارس منظمات المجتمع المدني نشاطاً يكمل دور الدولة ويساعد على تنشيط قيم المبادرة لتخطي مرحلة الاعتماد على الدولة في كل أمر، ولكن يمكن القول: إن مؤسسات المجتمع المدني في سوريا لم تمارس دوراً ملموساً في تغيير الأوضاع القائمة من خلال المساهمة الفعالة بدور ديمقراطي في المجتمع، ولم تفلح هذه المؤسسات في إضفاء الطابع الشعبي عليها، والذي يمكن أن يساعدها على القيام بدور تعبوي تغييري يحتاجه مجتمعنا، من شأن هذا الدور أن يسهم في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي للمجتمع والمشاركة في صياغة السياسات العامة بما يحقق مصالح المواطنين.
ويمكن تحديد أهم المآخذ على منظمات المجتمع المدني في سوريا بما يلي:
1 – القيام بدور الوسيط فقط بين الجهة الداعمة والجهة المدعومة دون المشاركة الفعلية في رسم وصياغة السياسات.
2 – التعتيم الإداري والتنظيمي داخل المؤسسات.
3 – عدم وجود شفافية كاملة في الحسابات المالية.
4 – الاعتماد على الولاءات الشخصية في تعيين الموظفين والعاملين على حساب الخبرات والكفاءات.
أما المعوّقات والأسباب التي حالت دون وجود دور فعّال لمؤسسات المجتمع المدني فيمكن تقسيمها إلى اثنتين:
1 – معوّقات عامة: وهي لا تخص المجتمع المدني في سوريا فحسب، بل يمكن تعميمها على الدول النامية عموماً، ولعلّ أبرزها – وفقا للتقارير الصادرة عن المراكز العربية للتنمية – فقدان الحرية – ضعف دور المرأة – المستوى المتدني للمعرفة. إذ إنه من الصعب أن نلحظ نتائج مبتغاة لمنظمات المجتمع المدني في دول ذات نظم استبدادية وبيروقراطية تعيش أزمة خانقة على جميع الصعد.
2 – معوّقات خاصة: تتلخص بمجمل الممارسات الأمنية التي تمارسها السلطات السورية فيما يتعلق بنشاط الجمعيات على مختلف أنواعها، إذ إن نظام الحكم القائم قد أخضع جميع الأنشطة المجتمعية لمراقبة شديدة، إن أية مؤسسة في سوريا يجب أن تعمل وفقاً لمشيئة السلطة الحاكمة وبالطريقة التي تعيد إنتاج السلطة وتعمل على شرعنة سلوكها، وفي هذه الحال تتلاشى الوظيفة الجوهرية للمجتمع المدني والتي تتمثل بالدور الشعبي الرديف للدولة وليس المنضوي في فلكها وسياساتها.
يمكن التأكيد على أن خضوع سوريا لما يقارب من خمسة عقود من الزمن لحكم سياسي مستبد قد وضع الدولة السورية خارج السياق الحضاري للعالم، وذلك من خلال حرمان المجتمع السوري من الاستقلال الاجتماعي أو الانتظام المستقل.
لقد جاءت الثورة السورية في ربيع عام 2011 لتزيل الركام عن عمق الإشكاليات والتناقضات المركونة والمسكوت عنها طيلة فترة طويلة من الزمن، ولعل فداحة الأمر- فيما أعتقد- إنما تتجسد في انفجار هذه الإشكاليات المجتمعية دون ضابط قيمي أو قانوني يمكّن من السيطرة عليها، وليست مظاهر التطرف والنزوع إلى العنف المسلح وكذلك الخطاب السافر عن الطائفية والمذهبية، أضف إلى ذلك التراجع الجماعي إلى المكوّنات والولاءات الفرعية البدائية كالعشيرة والطائفة والمذهب، إلا نتاجاً طبيعياً لسبات اجتماعي وسياسي طويل، بل لتخلف شديد ألجأ السوريين إليه نظام شمولي مستبد.
إلا أنه من جهة أخرى، لا يمكن تبرئة النخب السياسية والثقافية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني من المسؤولية عما آلت إليه الحال، فعلى الرغم من انعدام الشروط الصحية للعمل السياسي في سوريا، وكذلك على الرغم من اغتيال السلطة للمناخ الاجتماعي الآمن الذي يتيح للأفراد الحصول على حقوقهم، فإنه من جانب آخر لا يُظهر الخطاب الثقافي والسياسي للمعارضة والنخب السورية رغبة جادة في محاصرة وتفكيك الإشكاليات الناجمة عن مرحلة الاستبداد، فحديث السوريين ونقدهم للطغيان والاستبداد لا يوازيه مشروع ثقافي واضح المعالم والأهداف والآليات لمكافحة الطغيان والاستبداد، وكذلك نقد الطائفية والمذهبية لم يتأطر ضمن مشروع سياسي أو ثقافي ممنهج يهدف إلى تشخيص الظواهر ووضع آليات ووسائل لحلها.
وإني على يقين من أن الثورة السورية غنية بكشوفاتها المعرفية والثقافية أكثر بكثير من إرهاصاتها السياسية، ولكن المعضلة تكمن في عدم إدراك القيمة الحقيقية لفاعلية الثقافة ودورها في تشكيل وعي اجتماعي قادر على استيعاب وتخطي التناقضات الاجتماعية، وقادر في الوقت ذاته على إنتاج تصورات ورؤى مبدعة لسبر الواقع وتحليل ظواهره وإشكالياته.
إن استفحال العنف المسلح وشيوع التطرف والتعصب الديني والمذهبي، وكذلك الارتكاس إلى الحواضن الاجتماعية البدائية كالعشيرة والطائفة والمذهب، إنها كلها ظواهر معيقة لأي تحول اجتماعي ديمقراطي، وهي بمجملها تعبير عن غياب حقيقي لمشروع أو مشاريع ثقافية تعمل على التأسيس لوعي اجتماعي يتقوّم على قيم الحرية والكرامة والتسامح وحقوق الإنسان.
ذلك أن مقاومة التطرف الديني والمذهبي والعنف المسلح والنزعات الطائفية وغياب قيم التآلف الاجتماعي لا يمكن علاجها بعنف مضاد أو بطائفية مضادة، أو بالمزيد من تشكيل الفصائل العسكرية ذات الأجندات المشبوهة، بل بالعمل الدؤوب والمنظم على استيعاب جميع الجهود الثقافية والسياسية بغية تأطيرها ببرنامج وطني واضح المعالم والأهداف يعمل من خلاله الجميع على صياغة عقد اجتماعي جديد يحظى بقبول السوريين ويلبي تطلعاتهم ويحقق مصالحهم، ليكون أفقاً يمكّننا من العبور إلى سورية الجديدة.

حسن النيفي
11 – 11 – 2014              

                              

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق