Translate

الاثنين، 10 أكتوبر 2016

المثقف – السياسي

لا تهدف هذه المقالة الوجيزة إلى التنقيب النظري في علاقة الثقافة بالسياسة بوجه عام، بقدر ما ترمي إلى البحث في التجليات الواقعية لهذه الظاهرة؛ لإيماني العميق بأن الثقافة -في جوهرها- سلوك متعدّد الأوجه، ولكنه محكوم دومًا بالقيمة، وليس مفهومًا نظريًا فحسب، يجتهد الناس في البحث عن ماهيته وتحديد معالمه.

يحيل معظم النتاج الذهني للتيارات والقوى السياسية السورية -منذ مرحلة الأربعينيات وحتى اللحظة- إلى طغيان الهاجس السياسي على النزوع الفكري أو الثقافي؛ إذ سرعان ما يتحول حديث أي مفكر أو سياسي إلى حديث في السياسة؛ يتناول الشأن العام، لكن دون أن يتقوّم هذا الهم السياسي على مراكمات معرفية ثقافية، وهذا ما يجعل الحديث في السياسة أقرب ما يكون إلى العمل الارتجالي الذي لا يتأسس على رؤى وثوابت نظرية ضابطة للسياسة. أضف إلى ذلك، أن الاهتمام بالجانب السياسي، لم يُنتج مراكمات سياسية ناتجة عن دراسات ممنهجة وجهد معرفي في حقول علم السياسة، مثلًا كالبحث في (نظرية الدولة، أو علاقة المواطن بالسلطة، أو دور المؤسسات والكيانات السياسية في المجتمع)، بل يمكن الحديث عن مُنتَج كمّي كبير، يتراوح بين التنظير الأيديولوجي للأفكار الجاهزة، والنزوع الحماسي لتحليل الأوضاع القائمة؛ الأمر الذي كان يحول -دومًا- دون مقاربة الواقع مقاربة ثقافية، تحاول توظيف الفكر المجرّد في رؤية الواقع، كما هو. ولعلّ غياب الحضور الحقيقي للثقافة، في العمل أو الإنتاج السياسي، قد أفضى إلى هيمنة البديل الأيديولوجي؛ إذ غالبًا ما كان يُنظر إلى الممارسات الأيديولوجية على أنها نشاط فكري مثالي، صالح لأي مقاربة يقوم بها رجل السياسة، حيال الواقع، وهذا ما تؤكده لنا معظم النتاجات التي خلّفها القوميون في مرحلة الخمسينيات والستينيات وكذلك الاشتراكيون والإسلاميون، أي إن هؤلاء جميعًا تحدثوا كثيرًا في السياسة، وكذلك فصّلوا القول -كثيرًا- في كيفية وجوب التعامل مع المستجدات، ولكن لم نجد في معظم ما كتبه السياسيون، منذ أواخر عصر النهضة وحتى اللحظة الراهنة، (نظرية في بناء الدولة )، أو (بحوثًا مميّزة وذات منهجية علمية تتناول أي شأن سياسي آخر).

ويمكن القول بمزيد من التأكيد: إن مجمل التشكيلات السياسية السورية التقليدية -من أحزاب وتجمعات وتيارات وأفراد- تُعدّ الحامل الحقيقي لموروث سياسي غنيّ بالزخم الأيديولوجي، ويفتقر كثيرًا إلى الجانب المعرفي والثقافي. فإشكالية الأحزاب في المجتمع السوري، ليست إشكالية ناتجة عن وضع سياسي مأزوم فحسب، بل المشكلة –في ما أعتقد– تكمن في صلب أزمة الثقافة؛ إذ ثمة قطيعة واضحة -خلال عقود- خلت بين السياسة والثقافة، ذلك أن السياسة -حتى تكون قادرة على استنباط مضامينها ومشروعيتها من السياق الاجتماعي لحياة المواطنين- يجب عليها أن تتأسس على حوامل معرفية متينة، ومتضمنة لحدود من المعقولية. ولعله من المؤسف جدًا أن مراجعة دقيقة للإرث السياسي الذي خلفته المعارضة السورية -منذ مرحلة ما بعد الاستقلال- يُظهر -بوضوح- ضحالة وهزال الحوامل المعرفية والثقافية التي تتقوّم عليها السياسة. وفي الوقت الذي كان من المفترض فيه أن تكون فرصة عظيمة لفتوحات ثقافية وفكرية هائلة، وأعني بذلك ثورات الربيع العربي عمومًا، والثورة السورية على وجه الخصوص، والتي كانت زاخرة بكشوفاتها الثقافية أكثر بكثير من إرهاصاتها السياسية؛ إلا أن المؤسف حقًا، هو بقاء الانشطار الكامل بين السياسة والثقافة. ومازال ثمة هروب أو خشية لرجال السياسة من مقاربة واقع الثورة مقاربة ثقافية، قادرة على اختراق الأنساق الأيديولوجية ومتسلحةً في الوقت ذاته برؤى وتصورات منبثقة عن وعي معرفي عميق، وليس عن تصورات تقليدية أو عقدية.

إلّا أن القصور الذي يُتّهم به رجل السياسة لم يكن رجل الثقافة مبرأً منه؛ إذ أتاحت لنا الثورة السورية أن نرى -عن قرب- التجسيدات العملية للمُنتج الثقافي السوري الذي يترجم -بكل تأكيد– مدى فهم واستيعاب العديد من المثقفين السوريين لطبيعة مفهوم الثقافة. لن أقف –بالطبع– عند عديدين ممن عدّوا أنفسهم قد حازوا على سلطة معرفية من حيّز مفاهيمي هو أرقى من الواقع الاجتماعي، وأن هذه السلطة تخوّلهم حقّ النأي بأنفسهم عن الواقع المعاش، وبالتالي؛ هم غير معنيين بكل ما يلامس الحياة العامة للمواطن، كالقهر والاستبداد والتعذيب والجوع والفساد وقضايا الحريات والحقوق…إلخ، فهؤلاء قد برّروا لأنفسهم الابتعاد التام عن الشأن العام، ولذلك؛ لا يعنينا أمرهم في هذا السياق. ولكنّ قسمًا آخر من المثقفين المعروفين، تصدّروا المشهد الثقافي من خلال تماهي جهدهم الثقافي بالشأن العام، وظلوا طوال عقود من الزمن يحملون سمة (عضوية المثقف)، ومنهم من غدا مُنتجه الثقافي مصدر تنظير للعديد من القوى والأحزاب السورية. لكنّ المفارقة المؤلمة أنه عندما أُتيح لقسم من هؤلاء الانخراط في مؤسسات الثورة السورية (المجلس الوطني- الائتلاف – الحكومة الموقّتة) وأُعطي الفرصة الكاملة لممارسة دوره الحقيقي كمثقف، سرعان ما انزاح عن مجمل ثوابته الثقافية القيمية، وانسلّ من حيّزه الاجتماعي الشعبي الذي برز من خلاله، واستثمر كل مخزونه البراغماتي مبرّرًا -بخطاب استعلائي أجوف- سلوكه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، ولتتحوّل مجمل قناعاته بديمقراطيته المزعومة، إلى نزعة فردية استبدادية، تجعله يرى في نفسه حالة استثنائية بالغة الطهورة دائمًا، بعيدة عن النقد والتصويب، بل غالبًا ما تكون نزعته السلطوية الاستبدادية حائلًا بينه وبين الاعتذار الذي هو قيمة ثقافية راقية بحد ذاتها، أو الاعتراف بالقصور أو الخطأ. فمجمل هذا النوع من المثقفين السوريين يرون في أنفسهم حالة نخبوية تحوّلت بفضل(نضالاتها) إلى حالة (ما فوق وطنية)، وهذا ما يستوجب –وفقًا لقناعاتهم– عدم اعترافهم بالخطأ، أو عدم اعتذارهم للسوريين بالفشل، وبالتالي؛ يستوجب أيضًا سكوت جمهورهم التقليدي عن محاسبتهم.


البراغماتية المفرطة والخواء الثقافي والمعرفي عند السياسي، يقابلهما الزيف المعرفي والانفصام الأخلاقي والقيمي، والسلوك الانتهازي عند المثقف، كلها من الموجعات المميتات ليس لأصحابها فحسب، بل لمجمل السوريين الذين يؤمنون بأن عملية التحرر الوطني والاجتماعي لا بدّ أن تتجلّى إرهاصاتها في الوعي أولًا.


حسن النيفي
10/10/2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق